كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ يَقُولُ اللَّهُ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيَخْرُجُونَ قَدْ امْتُحِشُوا وَعَادُوا حُمَمًا فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ أَوْ قَالَ حَمِيَّةِ السَّيْلِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّهَا تَنْبُتُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا موسى‏)‏ هو ابن إسماعيل، ووهيب هو ابن خالد، وعمرو هو ابن يحيى المازني، وأبوه يحيى هو ابن عمارة بن أبي حسن المازني‏.‏

قوله ‏(‏إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يقول الله تعالى‏:‏ من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه‏)‏ هكذا روى يحيى بن عمارة عن أبي سعيد الخدري آخر الحديث ولم يذكر أوله، ورواه عطاء ابن يسار عن أبي سعيد مطولا وأوله الرؤية وكشف الساق والعرض ونصب الصراط والمرور عليه وسقوط من يسقط وشفاعة المؤمنين في إخوانهم وقول الله أخرجوا من عرفتم صورته، وفيه من في قلبه مثقال دينار وغير ذلك، وفيه قول الله تعالى شفعت الملائكة والنبيون والمؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد صاروا حمما، وقد ساق المصنف أكثر في تفسير سورة النساء، وساقه بتمامه في كتاب التوحيد، وسأذكر فوائده في شرح حدث الباب الذي يلي هذا مع الإشارة إلى ما تضمنته هذه الطريق إن شاء الله تعالى‏.‏

وتقدمت لهذه الرواية طريق أخرى في كتاب الإيمان في ‏"‏ باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال ‏"‏ وتقدم ما يتعلق بذلك هناك‏.‏

واستدل الغزالي بقوله ‏"‏ من كان في قلبه ‏"‏ على نجاة من أيقن بذلك وحال بينه وبين النطق به الموت‏.‏

وقال في حق من قدر على ذلك فأخر فمات‏:‏ يحتمل أن كون امتناعه عن النطق بمنزلة امتناعه عن الصلاة فيكون غير مخلد في النار، ويحتمل غير ذلك‏.‏

ورجح غيره الثاني فيحتاج إلى تأويل قوله ‏"‏ في قلبه ‏"‏ فيقدر فيه محذوف تقديره منضما إلى النطق به مع القدرة عليه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَجُلٌ تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَةٌ يَغْلِي مِنْهَا دِمَاغُهُ

الشرح‏:‏

حديث النعمان بن بشير أورده من وجهين أحدهما أعلى من الآخر، لكن في العالي عنعنة أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، وفي النازل تصريحه بالسماع فانجبر ما فاته من العلو الحسي بالعلو المعنوي، وإسرائيل في الطريق هو ابن يونس بن أبي إسحاق المذكور، والنعمان هو ابن بشير بن سعد الأنصاري، ووقع مصرحا به في رواية مسلم عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار جميعا عن غندر، ووقع في رواية يحيى بن آدم عن إسرائيل عن أبي إسحاق ‏"‏ سمعت النعمان بن بشير الأنصاري يقول ‏"‏ فذكر الحديث‏.‏

قوله ‏(‏أهون أهل النار عذابا‏)‏ قال ابن التين يحتمل أن يراد به أبو طالب‏.‏

قلت‏:‏ وقد بينت في قصة أبي طالب من المبعث النبوي أنه وقع في حديث ابن عباس عند مسلم التصريح بذلك ولفظه ‏"‏ أهون أهل النار عذابا أبو طالب‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أخمص‏)‏ بخاء معجمة وصاد مهملة وزن أحمر‏:‏ ما لا يصل إلى الأرض من باطن القدم عند المشي‏.‏

قوله ‏(‏جمرة‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ جمرتان ‏"‏ وكذا في رواية إسرائيل ‏"‏ على أخمص قدمه جمرتان ‏"‏ قال ابن التين‏:‏ يحتمل أن يكون الاقتصار على الجمرة للدلالة على الأخرى لعلم السامع بأن لكل أحد قدمين، ووقع في رواية الأعمش عن أبي إسحاق عند مسلم بلفظ ‏"‏ من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه ‏"‏ وفي حديث أبي سعيد عنده نحوه وقال ‏"‏ يغلي دماغه من حرارة نعله‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏منها دماغه‏)‏ في رواية إسرائيل ‏"‏ منهما ‏"‏ بالتثنية، وكذا في حديث ابن عباس‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ عَلَى أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ وَالْقُمْقُمُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏كما يغلي المرجل بالقمقم‏)‏ زاد في رواية الأعمش ‏"‏ لا يرى أن أحدا أشد عذابا منه وأنه لأهونهم عذابا ‏"‏ والمرجل بكسر الميم ويسكون الراء وفتح الجيم بعدها لام قدر من نحاس، ويقال أيضا لكل إناء يغلي فيه الماء من أي صنف كان، والقمقم معروف من آنية العطار، ويقال هو إناء ضيق الرأس يسخن فيه الماء يكون من نحاس وغيره فارسي ويقال رومي وهو معرب وقد يؤنث فيقال قمقمة، قال ابن التين‏:‏ في هذا التركيب نظر‏.‏

وقال عياض‏:‏ الصواب ‏"‏ كما يغلي المرجل والقمقم ‏"‏ بواو العطف لا بالباء، وجوز غيره أن تكون الباء بمعنى مع، ووقع في رواية الإسماعيلي ‏"‏ كما يغلي المرجل أو القمقم ‏"‏ بالشك، تقدم شيء من هذا في قصة أبي طالب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ

الشرح‏:‏

حديث عدي بن حاتم، تقدم شرحه قريبا في آخر ‏"‏ باب من نوقش الحساب‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد في ذكر أبي طالب، تقدم في قصة أبي طالب من طريق الليث حدثني ابن الهاد وعطف عليه السند المذكور هنا واختصر المتن، ويزيد المذكور هنا هو ابن الهاد المذكور هناك، واسم كل من ابن أبي حازم والدراوردي عبد العزيز، وهما مدنيان مشهوران وكذا سائر رواة هذا السند‏.‏

قوله ‏(‏لعله تنفعه شفاعتي‏)‏ ظهر من حديث العباس وقوع هذا الترجي، واستشكل قوله صلى الله عليه وسلم تنفعه شفاعتي بقوله تعالى ‏(‏فما تنفعهم شفاعة الشافعين‏)‏ وأجيب بأنه خص ولذلك عدوه في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل معنى المنفعة في الآية يخالف معنى المنفعة في الحديث، والمراد بها في الآية الإخراج من النار وفي الحديث المنفعة بالتخفيف، وبهذا الجواب جزم القرطبي‏.‏

وقال البيهقي في البعث‏:‏ صحة الرواية في شأن أبي طالب فلا معنى للإنكار من حيث صحة الرواية، ووجهه عندي أن الشفاعة في الكفار إنما امتنعت لوجود الخبر الصادق في أنه لا يشفع فيهم أحد، وهو عام في حق كل كافر، فيجوز أن يخص منه من ثبت الخبر بتخصيصه، قال‏:‏ وحمله بعض أهل النظر على أن جزاء الكافر من العذاب يقع على كفره وعلى معاصيه، فيجوز أن الله يضع عن بعض الكفار بعض جزاء معاصيه تطييبا لقلب الشافع لا ثوابا للكافر لأن حسناته صارت بموته على الكفر هباء‏.‏

وأخرج مسلم عن أنس ‏"‏ وأما الكافر فيعطى حسناته في الدنيا حتى إذا أقصى إلى الآخرة لم تكن له حسنة ‏"‏ وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ اختلف في هذه الشفاعة هل هي بلسان قولي أو بلسان حالي‏؟‏ والأول يشكل بالآية، وجوابه جواز التخصيص؛ والثاني يكون معناه أن أبا طالب لما بالغ في إكرام النبي صلى الله عليه وسلم والذب عنه جوزي على ذلك بالتخفيف فأطلق على ذلك شفاعة لكونها بسببه‏.‏

قال‏:‏ ويجاب عنه أيضا أن المخفف عنه لما لم يجد أثر التخفيف فكأنه لم ينتفع بذلك، ويؤيد ذلك ما تقدم أنه يعتقد أن ليس في النار أشد عذابا منه، وذلك أن القليل من عذاب جهنم لا تطيقه الجبال فالمعذب لاشتغاله بما هو فيه يصدق عليه أنه لم يحصل له انتفاع بالتخفيف‏.‏

قلت‏:‏ وقد يساعد ما سبق ما تقدم في النكاح من حديث أم حبيبة في قصة بنت أم سلمة ‏"‏ أرضعتني وإياها ثويبة ‏"‏ قال عروة ‏"‏ إن أبا لهب رؤى في المنام فقال‏:‏ لم أر بعدكم خيرا غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة ‏"‏ وقد تقدم الكلام عليه هناك، وجوز القرطبي في ‏"‏ التذكرة ‏"‏ أن الكافر إذا عرض على الميزان ورجحت كفة سيئاته بالكفر اضمحلت حسناته فدخل النار، لكنهم يتفاوتون في ذلك‏:‏ فمن كانت له منهم حسنات من عتق ومواساة مسلم ليس كمن ليس له شيء من ذلك، فيحتمل أن يجازي بتخفيف العذاب عنه بمقدار ما عمل، لقوله تعالى ‏(‏ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا‏)‏ ‏.‏

قلت‏:‏ لكن هذا البحث النظري معارض بقوله تعالى ‏(‏ولا يخفف عنهم من عذابها‏)‏ وحديث أنس الذي أشرت إليه، وأما ما أخرجه ابن مردويه والبيهقي من حديث ابن مسعود رفعه ‏"‏ ما أحسن محسن من مسلم ولا كافر إلا أثابه الله قلنا يا رسول الله ما إثابة الكافر‏؟‏ قال‏:‏ المال والولد والصحة أشباه ذلك‏.‏

قلنا وما إثابته في الآخرة‏؟‏ قال‏:‏ عذابا دون العذاب‏.‏

ثم قرأ‏:‏ أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‏"‏‏.‏

فالجواب عنه أن سنده ضعيف، وعلى تقدير ثبوته فيحتمل أن يكون التخفيف فيما يتعلق بعذاب معاصيه، بخلاف عذاب الكفر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ لَوْ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّنَا فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ وَيَقُولُ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ائْتُوا مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ائْتُوا عِيسَى فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ ائْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُقَالُ لِي ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِي ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا ثُمَّ أُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَعُودُ فَأَقَعُ سَاجِدًا مِثْلَهُ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ حَتَّى مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ عِنْدَ هَذَا أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ

الشرح‏:‏

حديث أنس الطويل في الشفاعة، أورده هنا من طريق أبي عوانة، ومضى في تفسير البقرة من رواية هشام الدستوائي ومن رواية سعيد بن أبي عروبة، ويأتي في التوحيد من طريق همام أربعتهم عن قتادة وأخرجه أيضا أحمد من رواية شيبان عن قتادة ويأتي في التوحيد من طريق معبد بن هلال عن أنس وفيه زيادة للحسن عن أنس، ومن طريق حميد عن أنس باختصار، وأخرجه أحمد من طريق النضر بن أنس عن أنس، وأخرجه أيضا من حديث ابن عباس، وأخرجه ابن خزيمة من طريق معتمر عن حميد عن أنس، وعند الحاكم من حدث ابن مسعود والطبراني من حديث عبادة بن الصامت، ولابن أبي شيبة من حديث سلمان الفارسي وجاء من حديث أبي هريرة كما مضى في التفسير من رواية أبي زرعة عنه، وأخرجه الترمذي من رواية العلاء بن يعقوب عنه، من حدث أبي سعيد كما سيأتي في التوحيد، وله طرق عن أبي سعيد مختصرة، وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وحذيفة معا، وأبو عوانة من رواية حذيفة عن أبي بكر الصديق، ومضى في الزكاة في تفسير سبحان من حديث ابن عمر باختصار، وعند كل منهم ما ليس عند الآخر، وسأذكر ما عند كل منهم من فائدة مستوعبا إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله ‏(‏يجمع الله الناس يوم القيامة‏)‏ في رواية المستملى ‏"‏ جمع بصيغة الفعل الماضي والأول المعتمد ووقع في رواية معبد بن هلال ‏"‏ إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض ‏"‏ وأول حديث أبي هريرة ‏"‏ أنا سيد الناس يوم القيامة، يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون ‏"‏ وزاد في رواية إسحاق بن راهويه عن جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعه فيه ‏"‏ وتدنو الشمس من رءوسهم فيشتد عليهم حرها ويشق عليهم دنوها فينطلقون من الضجر والجزع مما هم فيه ‏"‏ وهذه الطريق عند مسلم عن أبي خيثمة عن جرير، لكن لم يسق لفظها، وأول حديث أبي بكر ‏"‏ عرض على ما هو كائن من أمر الدنيا والآخرة يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيفظع الناس لذلك والعرق كاد يلجمهم ‏"‏ وفي رواية معتمر ‏"‏ يلبثون ما شاء الله من الحبس ‏"‏ وقد تقدم في ‏"‏ باب ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ‏"‏ ما أخرجه مسلم من حديث المقداد أن الشمس تدنو حتى تصير من الناس قدر ميل وسائر ما ورد في ذلك وبيان تفاوتهم في العرق بقدر أعمالهم، وفي حديث سلمان ‏"‏ تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين، ثم تدنو من جماجم الناس فيعرقون حتى يرشح العرق في الأرض قامة، ثم يرتفع الرجل حتى يقول عق عق ‏"‏ وفي رواية النضر بن أنس ‏"‏ لغم ما هم فيه والخلق ملجمون بالعرق، فأما المؤمن فهو عليه كالزكمة، وأما الكافر فيغشاه الموت ‏"‏ وفي حديث عبادة بن الصامت رفعه ‏"‏ إني لسيد الناس يوم القيامة بغير فخر، وما من الناس إلا من هو تحت لوائي ينتظر الفرج، وإن معي لواء الحمد ‏"‏ ووقع في رواية هشام وسعيد وهمام ‏"‏ يجتمع المؤمنون فيقولون ‏"‏ وتبين من رواية النضر بن أنس أن التعبير بالناس، أرجح لكن الذي يطلب الشفاعة هم المؤمنون‏.‏

قوله ‏(‏فيقولون لو استشفعنا‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ فيلهمون ذلك ‏"‏ وفي لفظ ‏"‏ فيهتمون بذلك‏"‏‏.‏

وفي رواية همام ‏"‏ حتى يهتموا بذلك‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏على ربنا‏)‏ في رواية هشام وسعيد ‏"‏ إلى ربنا ‏"‏ وتوجه بأنه ضمن معنى استشفعنا سعي لأن الاستشفاع طلب الشفاعة وهي انضمام الأدنى إلى الأعلى ليستعين به على ما يرومه‏.‏

وفي حديث حذيفة وأبي هريرة معا ‏"‏ يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقوم المؤمنون حي تنزلف لهم الجنة فيأتون آدم ‏"‏ و ‏"‏ حتى ‏"‏ غاية لقيامهم المذكور‏.‏

ويؤخذ منه أن طلبهم الشفاعة يقع حين تنزلف لهم الجنة‏.‏

ووقع في أول حديث أبي نضرة عن أبي سعيد في مسلم رفعه ‏"‏ أنا أول من تنشق عنه الأرض ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيأتون آدم ‏"‏ الحديث قال القرطبي ‏"‏ كأن ذلك يقع إذا جيء بجهنم، فإذا زفرت فزع الناس حينئذ وجثوا على ركبهم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏حتى يريحنا‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ فيريحنا ‏"‏ وفي حديث ابن مسعود عند ابن حبان ‏"‏ إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة حتى يقول‏:‏ يا رب أرحني ولو إلى النار ‏"‏ وفي رواية ثابت عن أنس ‏"‏ يطول يوم القيامة على الناس، فيقول بعضهم لبعض‏:‏ انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر فليشفع لنا إلى ربنا فليقض بيننا ‏"‏ وفي حديث سلمان ‏"‏ فإذا رأوا ما هم فيه قال بعضهم لبعض‏:‏ ائتوا أباكم آدم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏حتى يريحنا من مكاننا هذا‏)‏ في رواية ثابت ‏"‏ فليقض بيننا ‏"‏ وفي رواية حذيفة وأبي هريرة فيقولون ‏"‏ يا أبانا استفتح لنا الجنة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فيأتون آدم‏)‏ في رواية شيبان ‏"‏ فينطلقون حتى يأتوا آدم فيقولون أنت الذي ‏"‏ في رواية مسلم ‏"‏ يا آدم أنت أبو البشر ‏"‏ وفي رواية همام وشيبان ‏"‏ أنت أبو البشر ‏"‏ وفي حديث أبي هريرة نحو رواية مسلم‏.‏

وفي حديث حذيفة ‏"‏ فيقولون يا أبانا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه‏)‏ زاد في رواية همام ‏"‏ وأسكنك جنته وعلمك أسماء كل شيء ‏"‏ وفي حديث أبي هريرة ‏"‏ وأمر الملائكة فسجدوا لك ‏"‏ وفي حديث أبي بكر ‏"‏ أنت أبو البشر وأنت اصطفاك الله‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فاشفع لنا عند ربنا‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ عند ربك ‏"‏ وكذا لشيبان في حديث أبي بكر وأبي هريرة اشفع لنا إلى ربك، وزاد أبو هريرة ‏"‏ ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما بلغنا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏لست هناكم‏)‏ قال عياض‏:‏ قوله لست هناكم كناية عن أن منزلته دون المنزلة المطلوبة قاله تواضعا وإكبارا لما يسألونه، قال‏:‏ وقد يكون فيه إشارة إلى أن هذا المقام ليس لي بل لغيري‏.‏

قلت‏:‏ وقد وقع في رواية معبد بن هلال ‏"‏ فيقول لست لها ‏"‏ وكذا في بقية المواضع‏.‏

وفي رواية حذيفة ‏"‏ لست بصاحب ذاك ‏"‏ وهو يؤيد الإشارة المذكورة‏.‏

قوله ‏(‏ويذكر خطيئته‏)‏ زاد مسلم التي أصاب، والراجع إلى الموصول محذوف تقديره أصابها، زاد همام في روايته ‏"‏ أكله من الشجرة‏.‏

وقد نهي عنها ‏"‏ وهو بنصب أكله بدل من قوله خطيئته وفي رواية هشام ‏"‏ فيذكر ذنبه فيستحي ‏"‏ وفي رواية ابن عباس ‏"‏ إني قد أخرجت بخطيئتي من الجنة ‏"‏ وفي رواية أبي نضرة عن أبي سعيد ‏"‏ وإني أذنبت ذنبا فأهبطت به إلى الأرض ‏"‏ وفي رواية حذيفة وأبي هريرة معا ‏"‏ هل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم ‏"‏ وفي رواية ثابت عند سعيد بن منصور ‏"‏ إني أخطأت وأنا في الفردوس فإن يغفر لي اليوم حسبي ‏"‏ وفي حديث أبي هريرة ‏"‏ إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ائتوا نوحا فيأتونه‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ ولكن ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض‏.‏

فيأتون نوحا ‏"‏ وفي رواية هشام ‏"‏ فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ‏"‏ وفي حديث أبي بكر ‏"‏ انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم، إلى نوح، ائتوا عبدا شاكرا ‏"‏ وفي حديث أبي هريرة ‏"‏ اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحا فيقولون‏:‏ يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدا شكورا ‏"‏ وفي حديث أبي بكر ‏"‏ فينطلقون إلى نوح فيقولون‏:‏ يا نوح اشفع لنا إلى ربك، فإن الله اصطفاك واستجاب لك في دعائك ولم يدع على الأرض من الكافرين ديارا ‏"‏ ويجمع بينهما بأن آدم سبق إلى وصفه بأنه أول رسول فخاطبه أهل الموقف بذلك، وقد استشكلت هذه الأولية بأن آدم نبي مرسل وكذا شيث وإدريس وهم قبل نوح، وقد تقدم الجواب عن ذلك في شرح حديث جابر ‏"‏ أعطيت خمسا ‏"‏ في كتاب التيمم وفيه ‏"‏ وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ‏"‏ الحديث‏:‏ ومحصل الأجوبة عن الإشكال المذكور أن الأولية مقيدة بقوله ‏"‏ أهل الأرض ‏"‏ لأن آدم ومن ذكر معه لم يرسلوا إلى أهل الأرض، ويشكل عليه حديث جابر، ويجاب بأن بعثته إلى أهل الأرض باعتبار الواقع لصدق أنهم قومه بخلاف عموم بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لقومه ولغير قومه، أو الأولية مقيدة بكونه أهلك قومه، أو أن الثلاثة كانوا أنبياء ولم يكونوا رسلا، وإلى هذا جنح ابن بطال في حق آدم، وتعقبه عياض بما صححه ابن حبان من حديث أبي ذر فإنه كالصريح في أنه كان مرسلا، وفيه التصريح بإنزال الصحف على شيث وهو من علامات الإرسال، وأما إدريس فذهبت طائفة إلى أنه كان في بني إسرائيل وهو إلياس، وقد ذكر ذلك في أحاديث الأنبياء‏.‏

ومن الأجوبة أن رسالة آدم كانت إلى بنيه وهم موحدون ليعلمهم شريعته، ونوح كانت رسالته إلى قوم كفار يدعوهم إلى التوحيد‏.‏

قوله ‏(‏فيقول‏:‏ لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها‏)‏ في رواية هشام ‏"‏ ويذكر سؤال ربه ما ليس له به علم ‏"‏ وفي رواية شيبان ‏"‏ سؤال الله ‏"‏ وفي رواية معبد بن هلال مثل جواب آدم لكن قال ‏"‏ وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي ‏"‏ وفي حديث ابن عباس ‏"‏ فيقول ليس ذاكم عندي ‏"‏ وفي حديث أبي هريرة ‏"‏ إني دعوت بدعوة أغرقت أهل الأرض ‏"‏ ويجمع بينه وبين الأول بأنه اعتذر بأمرين‏:‏ أحدهما نهي الله تعالى له أن يسأل ما ليس له به علم فخشي أن تكون شفاعته لأهل الموقف من ذلك، ثانيهما أن له دعوة واحدة محققة الإجابة وقد استوفاها بدعائه على أهل الأرض فخشي أن يطلب فلا يجاب‏.‏

وقال بعض الشراح‏:‏ كان الله وعد نوحا أن ينجيه وأهله، فلما غرق ابنه ذكر لربه ما وعده فقيل له‏:‏ المراد من أهلك من آمن وعمل صالحا فخرج ابنك منهم، فلا تسأل ما ليس لك به علم‏.‏

‏(‏تنبيهان‏)‏ ‏:‏ ‏(‏الأول‏)‏ سقط من حديث أبي حذيفة المقرون بأبي هريرة ذكر نوح، فقال في قصة آدم‏:‏ اذهبوا إلى ابني إبراهيم‏.‏

وكذا سقط من حديث ابن عمر، والعمدة على من حفظ‏.‏

‏(‏الثاني‏)‏ ذكر أبو حامد الغزالي في كشف علوم الآخرة أن بين إتيان أهل الموقف آدم وإتيانهم نوحا ألف سنة، وكذا بين كل نبي ونبي إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ولم أقف لذلك على أصل، ولقد أكثر في هذا الكتاب من إيراد أحاديث لا أصول لها فلا يغتر بشيء منها‏.‏

قوله ‏(‏ائتوا إبراهيم‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا ‏"‏ وفي رواية معبد بن هلال ‏"‏ ولكن عليكم بإبراهيم فهو خليل الله‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فيأتونه‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ فيأتون إبراهيم ‏"‏ زاد أبو هريرة في حديثه فيقولون‏:‏ يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، قم اشفع لنا إلى ربك ‏"‏ وذكر مثل ما لآدم قولا وجوابا إلا أنه قال ‏"‏ قد كنت كذبت ثلاث كذبات ‏"‏ وذكرهن‏.‏

قوله ‏(‏فيقول لست هناكم، ويذكر خطيئته‏)‏ زاد مسلم ‏"‏ التي أصاب فيستحيي ربه منها ‏"‏ وفي حديث أبي بكر ‏"‏ ليس ذاكم عندي ‏"‏ وفي رواية همام ‏"‏ إني كنت كذبت ثلاث كذبات ‏"‏ زاد شيبان في روايته ‏"‏ قوله إني سقيم ‏"‏ وقوله فعله كبيرهم هذا، وقوله لامرأته أخبريه أني أخوك ‏"‏ وفي رواية أبي نضرة عن أبي سعيد ‏"‏ فيقول إني كذبت ثلاث كذبات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله ‏"‏ وما حل بمهملة بمعنى جادل وزنه ومعناه‏.‏

ووقع في رواية حذيفة المقرونة ‏"‏ لست بصاحب ذاك، إنما كنت خليلا من وراء وراء ‏"‏ وضبط بفتح الهمزة وبضمها، واختلف الترجيح فيهما‏.‏

قال النووي‏:‏ أشهرهما الفتح بلا تنوين ويجوز بناؤها على الضم، وصوبه أبو البقاء والكندي، وصوب ابن دحية الفتح على أن الكلمة مركبة مثل شذر مذر، وإن ورد منصوبا منونا جاز، ومعناه لم أكن في التقريب والإدلال بمنزلة الحبيب‏.‏

قال صاحب التحرير‏:‏ كلمة تقال على سبيل التواضع، أي لست في تلك الدرجة‏.‏

قال‏:‏ وقد وقع لي فيه معنى مليح وهو أن الفضل الذي أعطيته كان بسفارة جبريل، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه الله بلا واسطة، وكرر وراء إشارة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم لأنه حصلت له الرؤية والسماع بلا واسطة، فكأنه قال أنا من وراء موسى الذي هو من وراء محمد، قال البيضاوي‏:‏ الحق أن الكلمات الثلاث إنما كانت من معاريض الكلام، لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق منها استصغارا لنفسه عن الشفاعة مع وقوعها، لأن من كان أعرف بالله وأقرب إليه منزلة كان أعظم خوفا‏.‏

قوله ‏(‏ائتوا موسى الذي كلمه الله‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ ولكن ائتوا موسى ‏"‏ وزاد ‏"‏ وأعطاه التوراة ‏"‏ وكذا في رواية هشام وغيره‏.‏

وفي رواية معبد بن هلال ‏"‏ ولكن عليكم بموسى فهو كليم الله ‏"‏ وفي رواية الإسماعيلي ‏"‏ عبدا أعطاه الله التوراة وكلمه تكليما ‏"‏ زاد همام في روايته ‏"‏ وقربه نجيا ‏"‏ وفي رواية حذيفة المقرونة ‏"‏ اعمدوا إلى موسى‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فيأتونه‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ فيأتون موسى فيقول ‏"‏ وفي حديث أبي هريرة ‏"‏ فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته وكلامه على الناس، اشفع لنا ‏"‏ فذكر مثل آدم قولا وجوابا لكنه قال‏:‏ ‏"‏ إني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فيقول لست هناكم‏)‏ زاد مسلم ‏"‏ فيذكر خطيئته التي أصاب قتل النفس ‏"‏ وللإسماعيلي ‏"‏ فيستحيي ربه منها ‏"‏ وفي رواية ثابت عند سعيد بن منصور إني قتلت نفسا بغير نفس، وإن يغفر لي اليوم حسبي ‏"‏ وفي حديث أبي هريرة ‏"‏ إني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها ‏"‏ وذكر مثل ما في آدم‏.‏

قوله ‏(‏ائتوا عيسى‏)‏ زاد مسلم ‏"‏ روح الله وكلمته ‏"‏ وفي رواية هشام ‏"‏ عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ‏"‏ وفي حديث أبي بكر ‏"‏ فإنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فيأتونه‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ فيأتون عيسى فيقول‏:‏ لست هناكم ‏"‏ وفي حديث أبي هريرة ‏"‏ فيقولون‏:‏ يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد صبيا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه‏؟‏ مثل آدم قولا وجوابا لكن قال‏:‏ ولم يذكر ذنبا ‏"‏ لكن وقع في رواية الترمذي من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد ‏"‏ إني عبدت من دون الله ‏"‏ وفي رواية أحمد والنسائي من حديث ابن عباس ‏"‏ إني اتخذت إلها من دون الله ‏"‏ وفي رواية ثابت عند سعيد بن منصور نحوه وزاد ‏"‏ وإن يغفر لي اليوم حسبي‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ عبد غفر له إلخ ‏"‏ زاد ثابت ‏"‏ من ذنبه ‏"‏ وفي رواية هشام ‏"‏ غفر الله له ‏"‏ وفي رواية معتمر ‏"‏ انطلقوا إلى من جاء اليوم مغفورا له ليس عليه ذنب ‏"‏ وفي رواية ثابت أيضا ‏"‏ خاتم النبيين قد حضر اليوم، أرأيتم لو كان متاع في وعاء قد ختم عليه أكان يقدر على ما في الوعاء حتى يفض الخاتم ‏"‏ وعند سعيد بن منصور من هذا الوجه ‏"‏ فيرجعون إلى آدم فيقول أرأيتم إلخ ‏"‏ وفي حديث أبي بكر ‏"‏ ولكن انطلقوا إلى سيد ولد آدم فإنه أول من تنشق عنه الأرض ‏"‏ قال عياض‏:‏ اختلفوا في تأويل قوله تعالى ‏(‏ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏)‏ فقيل‏:‏ المتقدم ما قبل النبوة والمتأخر العصمة‏.‏

وقيل‏:‏ ما وقع عن سهو أو تأويل‏.‏

وقيل‏:‏ المتقدم ذنب آدم والمتأخر ذنب أمته، وقيل‏:‏ المعنى أنه مغفور له غير مؤاخذ لو وقع، وقيل غير ذلك‏.‏

قلت‏:‏ واللائق بهذا المقام القول الرابع، وأما الثالث فلا يتأتى هنا، ويستفاد من قول عيسى في حق نبينا هذا ومن قول موسى فيما تقدم ‏"‏ إني قتلت نفسا بغير نفس وإن يغفر لي اليوم حسبي ‏"‏ مع أن الله قد غفر له بنص القرآن، التفرقة بين من وقع منه شيء ومن لم يقع شيء أصلا، فإن موسى عليه السلام مع وقوع المغفرة له لم يرتفع إشفاقه من المؤاخذة بذلك ورأى في نفسه تقصيرا عن مقام الشفاعة مع وجود ما صدر منه، بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك كله، ومن ثم احتج عيسى بأنه صاحب الشفاعة لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بمعنى أن الله أخبر أنه لا يؤاخذه بذنب لو وقع منه، وهذا من النفائس التي فتح الله بها في فتح الباري فله الحمد‏.‏

قوله ‏(‏فيأتوني‏)‏ في رواية النضر بن أنس عن أبيه ‏"‏ حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إني لقائم أنتظر أمتي تعبر الصراط إذ جاء عيسى فقال‏:‏ يا محمد هذه الأنبياء قد جاءتك يسألون لتدعو الله أن يفرق جمع الأمم إلى حيث يشاء لغم ما هم فيه ‏"‏ فأفادت هذه الرواية تعيين موقف النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، وأن هذا الذي وصف من كلام أهل الموقف كله يقع عند نصب الصراط بعد تساقط الكفار في النار كما سيأتي بيانه قريبا، وأن عيسى عليه السلام هو الذي يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الأنبياء جميعا يسألونه في ذلك‏.‏

وقد أخرج الترمذي وغيره من حديث أبي بن كعب في نزول القرآن على سبعة أحرف وفيه ‏"‏ وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم عليه السلام ‏"‏ ووقع في رواية معبد بن هلال ‏"‏ فيأتوني فأقول‏:‏ أنا لها أنا لها ‏"‏ زاد عقبة بن عامر عند ابن المبارك في الزهد ‏"‏ فيأذن الله لي فأقوم، فيثور من مجلسي أطيب ريح شمها أحد ‏"‏ وفي حديث سلمان بن أبي بكر بن أبي شيبة ‏"‏ يأتون محمدا فيقولون‏:‏ يا نبي الله أنت الذي فتح الله بك وختم، وغفر لك ما تقدم وما تأخر، وجئت في هذا اليوم آمنا وترى ما نحن فيه، فقم فاشفع لنا إلى ربنا‏.‏

فيقول‏:‏ أنا صاحبكم، فيجوش الناس حتى ينتهي إلى باب الجنة ‏"‏ وفي رواية معتمر ‏"‏ فيقول‏:‏ أنا صاحبها‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فأستأذن‏)‏ في رواية هشام ‏"‏ فأنطلق حتى أستأذن‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏على ربي‏)‏ زاد همام ‏"‏ في داره فيؤذن لي ‏"‏ قال عياض‏:‏ أي في الشفاعة‏.‏

وتعقب بأن ظاهر ما تقدم أن استئذانه الأول والإذن له إنما هو في دخول الدار وهي الجنة، وأضيفت إلى الله تعالى إضافة تشريف، ومنه ‏(‏والله يدعو إلى دار السلام‏)‏ على القول بأن المراد بالسلام هنا الاسم العظيم وهو من أسماء الله تعالى، قيل الحكمة في انتقال النبي صلى الله عليه وسلم من مكانه إلى دار السلام أن أرض الموقف لما كانت مقام عرض وحساب كانت مكان مخافة وإشفاق، ومقام الشافع يناسب أن يكون في مكان إكرام، ومن ثم يستحب أن يتحرى للدعاء المكان الشريف لأن الدعاء فيه أقرب للإجابة‏.‏

قلت‏:‏ وتقدم في بعض طرقه أن من جملة سؤال أهل الموقف استفتاح باب الجنة‏.‏

وقد ثبت في صحيح مسلم أنه أول من يستفتح باب الجنة‏.‏

وفي رواية علي بن زيد عن أنس عند الترمذي ‏"‏ فآخذ حلقة باب الجنة فأقعقعها فيقال‏:‏ من هذا‏؟‏ فأقول‏:‏ محمد، فيفتحون لي ويرحبون، فأخر ساجدا ‏"‏ وفي رواية ثابت عن أنس عند مسلم ‏"‏ فيقول الخازن‏:‏ من‏؟‏ فأقول‏:‏ محمد، فيقول‏:‏ بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك ‏"‏ وله من رواية المختار بن فلفل عن أنس رفعه ‏"‏ أنا أول من يقرع باب الجنة ‏"‏ وفي رواية قتادة عن أنس ‏"‏ آتي باب الجنة فأستفتح فيقال‏:‏ من هذا‏؟‏ فأقول‏:‏ محمد، فيقال‏:‏ مرحبا بمحمد ‏"‏ وفي حديث سلمان ‏"‏ فيأخذ بحلقة الباب وهي من ذهب فيقرع الباب فيقال‏:‏ من هذا‏؟‏ فيقول‏:‏ محمد، فيفتح له حتى يقوم بين يدي الله فيستأذن في السجود فيؤذن له ‏"‏ وفي حديث أبي بكر الصديق ‏"‏ فيأتي جبريل ربه فيقول ائذن له‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فإذا رأيته وقعت له ساجدا‏)‏ في رواية أبي بكر ‏"‏ فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي ‏"‏ وفي رواية لابن حبان من طريق ثوبان عن أنس ‏"‏ فيتجلى له الرب ولا يتجلى لشيء قبله ‏"‏ وفي حديث أبي بن كعب عند أبي يعلى رفعه ‏"‏ يعرفني الله نفسه، فأسجد له سجدة يرضى بها عني، ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فيدعني ما شاء الله‏)‏ زاد مسلم ‏"‏ أن يدعني ‏"‏ وكذا في رواية هشام، وفي حديث عبادة بن الصامت ‏"‏ فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا شاكرا له ‏"‏ وفي رواية معبد بن هلال ‏"‏ فأقوم بين يديه فيلهمني محامد لا أقدر عليها الآن فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا ‏"‏ وفي حديث أبي بكر الصديق ‏"‏ فينطلق إليه جبريل فيخر ساجدا قدر جمعة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ثم يقال لي ارفع رأسك‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ فيقال يا محمد ‏"‏ وكذا في أكثر الروايات‏.‏

وفي رواية النضر ابن أنس ‏"‏ فأوحى الله إلى جبريل أن اذهب إلى محمد فقل له ارفع رأسك ‏"‏ فعلى هذا فالمعنى يقول لي على لسان جبريل‏.‏

قوله ‏(‏وسل تعطه وقل يسمع واشفع تشفع‏)‏ في رواية مسلم بغير واو، وسقط من أكثر الروايات ‏"‏ وقل يسمع ‏"‏ ووقع في حديث أبي بكر ‏"‏ فيرفع رأسه فإذا نظر إلى ربه خر ساجدا قدر جمعة ‏"‏ وفي حديث سلمان ‏"‏ فينادى يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع وادع تجب‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمني‏)‏ وفي رواية هشام ‏"‏ يعلمنيه ‏"‏ وفي رواية ثابت ‏"‏ بمحامد لم يحمده بها أحد قبلي، ولا يحمده بها أحد بعدي ‏"‏ وفي حديث سلمان ‏"‏ فيفتح الله له من الثناء والتحميد والتمجيد ما لم يفتح لأحد من الخلائق ‏"‏ وكأنه صلى الله عليه وسلم يلهم التحميد قبل سجوده وبعده، وفيه ‏"‏ ويكون في كل مكان ما يليق به ‏"‏ وقد ورد ما لعله يفسر به بعض ذلك لا جميعه، ففي النسائي ومصنف عبد الرزاق ومعجم الطبراني من حديث حذيفة رفعه قال ‏"‏ يجمع الناس في صعيد واحد فيقال‏:‏ يا محمد، فأقول‏:‏ لبيك وسعديك والخير في يديك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك تباركت وتعاليت سبحانك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ‏"‏ زاد عبد الرزاق ‏"‏ سبحانك رب البيت ‏"‏ فذلك قوله ‏(‏عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا‏)‏ قال ابن منده في كتاب الإيمان‏:‏ هذا حديث مجمع على صحة إسناده وثقة رواته‏.‏

قوله ‏(‏ثم أشفع‏)‏ في رواية معبد بن هلال ‏"‏ فأقول رب أمتي أمتي أمتي ‏"‏ وفي حديث أبي هريرة نحوه‏.‏

قوله ‏(‏فيحد لي حدا‏)‏ يبين لي في كل طور من أطوار الشفاعة حدا أقف عنده فلا أتعداه، مثل أن يقول شفعتك فيمن أخل بالجماعة ثم فيمن أخل بالصلاة ثم فيمن شرب الخمر ثم فيمن زنى وعلى هذا الأسلوب، كذا حكاه الطيبي، والذي يدل عليه سياق الأخبار أن المراد به تفضيل مراتب المخرجين في الأعمال الصالحة كما وقع عند أحمد عن يحيى القطان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في هذا الحديث بعينه وسأنبه عليه في آخره، وكما تقدم في رواية هشام عن قتادة عن أنس في كتاب الإيمان بلفظ ‏"‏ يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة ‏"‏ وفي رواية ثابت عند أحمد ‏"‏ فأقول‏:‏ أي رب أمتي أمتي، فيقول‏:‏ أخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة ‏"‏ ثم ذكر نحو ما تقدم وقال ‏"‏ مثقال ذرة ‏"‏ ثم قال ‏"‏ مثقال حبة من خردل ‏"‏ ولم يذكر بقية الحديث‏.‏

ووقع في طريق النضر بن أنس قال ‏"‏ فشفعت في أمتي أن أخرج من كل تسعة وتسعين إنسانا واحدا، فما زلت أتردد على ربي لا أقوم منه مقاما إلا شفعت ‏"‏ وفي حديث سلمان ‏"‏ فيشفع في كل من كان في قلبه مثقال حبة من حنطة ثم شعيرة ثم حبة من خردل فذلك المقام المحمود ‏"‏ وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من هذا في شرح الحديث الثالث عشر، ويأتي مبسوطا في شرح حديث الباب الذي يليه‏.‏

قوله ‏(‏ثم أخرجهم من النار‏)‏ قال الداودي‏:‏ كأن راوي هذا الحديث ركب شيئا على غير أصله وذلك أن في أول الحديث ذكر الشفاعة في الإراحة من كرب الموقف، وفي آخره ذكر الشفاعة في الإخراج من النار، يعني وذلك إنما يكون بعد التحول من الموقف والمرور على الصراط وسقوط من يسقط في تلك الحالة في النار، ثم يقع بعد ذلك الشفاعة في الإخراج‏.‏

وهو إشكال قوي، وقد أجاب عنه عياض وتبعه النووي وغيره بأنه قد وقع في حديث حذيفة المقرون بحديث أبي هريرة بعد قوله ‏"‏ فيأتون محمدا فيقوم ويؤذن له ‏"‏ أي في الشفاعة ‏"‏ وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبي الصراط يمينا وشمالا فيمر أولكم كالبرق ‏"‏ الحديث‏.‏

قال عياض‏:‏ فبهذا يتصل الكلام، لأن الشفاعة التي لجأ الناس إليه فيها هي الإراحة من كرب الموقف، ثم تجيء الشفاعة في الإخراج، وقد وقع في حديث أبي هريرة - يعني الآتي في الباب الذي يليه بعد ذكر الجمع في الموقف - الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المنافقين من المؤمنين، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط والمرور عليه، فكان الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد هو أول فصل القضاء والإراحة من كرب الموقف، قال‏:‏ وبهذا تجتمع متون الأحاديث وتترتب معانيها‏.‏

قلت‏:‏ فكأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وسيأتي بقيته في شرح حديث الباب الذي يليه وفيه ‏"‏ حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا وفي جانبي الصراط كلاليب مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج ومكدوش في النار ‏"‏ فظهر منه أنه صلى الله عليه وسلم أول ما يشفع ليقضي بين الخلق، وأن الشفاعة فيمن يخرج من النار ممن سقط تقع بعد ذلك، وقد وقع ذلك صريحا في حديث ابن عمر اختصر في سياقه الحديث الذي ساقه أنس وأبو هريرة مطولا‏.‏

وقد تقدم في كتاب الزكاة من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه بلفظ ‏"‏ إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد فيشفع ليقضي بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم ‏"‏ ووقع في حديث أبي بن كعب عند أبي يعلى ‏"‏ ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني، ثم يؤذن لي في الكلام، ثم تمر أمتي على الصراط وهو منصوب بين ظهراني جهنم فيمرون ‏"‏ وفي حديث ابن عباس من رواية عبد الله بن الحارث عنه عند أحمد ‏"‏ فيقول عز وجل‏:‏ يا محمد ما تريد أن أصنع في أمتك‏؟‏ فأقول‏:‏ يا رب عجل حسابهم ‏"‏ وفي رواية عن ابن عباس عند أحمد وأبي يعلى ‏"‏ فأقول أنا لها، حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى، فإذا أراد الله أن يفرغ من خلقه نادى مناد‏:‏ أين محمد وأمته ‏"‏ الحديث وسيأتي بيان ما يقع في الموقف قبل نصب الصراط في شرح حديث الباب الذي يليه‏.‏

وتعرض الطيبي للجواب عن الإشكال بطريق آخر فقال‏:‏ يجوز أن يراد بالنار الحبس والكرب والشدة التي كان أهل الموقف فيها من دنو الشمس إلى رءوسهم وكربهم بحرها وسفعها حتى ألجمهم العرق، وأن يراد بالخروج منها خلاصهم من تلك الحالة التي كانوا فيها‏.‏

قلت‏:‏ وهو احتمال بعيد، إلا أن يقال إنه يقع إخراجان وقع ذكر أحدهما في حديث الباب على اختلاف طرقه والمراد به الخلاص من كرب الموقف، والثاني في حديث الباب الذي يليه ويكون قوله فيه ‏"‏ فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه ‏"‏ بعد تمام الخلاص من الموقف ونصب الصراط والإذن في المرور عليه، ويقع الإخراج الثاني لمن يسقط في النار حال المرور فيتحدا، وقد أشرت إلى الاحتمال المذكور في شرح حديث العرق في ‏"‏ باب قوله تعالى ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ‏"‏ والعلم عند الله تعالى‏.‏

وأجاب القرطبي عن أصل الإشكال بأن في قوله آخر حديث أبي زرعة عن أبي هريرة بعد قوله صلى الله عليه وسلم فأقول يا رب أمتي أمتي ‏"‏ فيقال أدخل من أمتك من الباب الأيمن من أبواب الجنة من لا حساب عليه ولا عذاب ‏"‏ قال‏:‏ في هذا ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع فيما طلب من تعجيل الحساب، فإنه لما أذن له في إدخال من لا حساب عليه دل على تأخير من عليه حساب ليحاسب، ووقع في حديث الصور الطويل عند أبي يعلى ‏"‏ فأقول يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة، فيقول الله‏:‏ وقد شفعتك فيهم وأذنت لهم في دخول الجنة ‏"‏ قلت‏:‏ وفيه إشعار بأن العرض والميزان وتطاير الصحف يقع في هذا الموطن، ثم ينادي المنادي‏:‏ ليتبع كل أمة من كانت تعبد، فيسقط الكفار في النار، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق، ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليه، فيطفأ نور المنافقين فيسقطون في النار أيضا، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط ويوقف بعض من نجا عند القنطرة للمقاصصة بينهم ثم يدخلون الجنة، وسيأتي تفصيل ذلك واضحا في شرح حديث الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى‏.‏

ثم وقفت في تفسير يحيى بن سلام البصري نزيل مصر ثم إفريقية - وهو في طبقة يزيد بن هارون، وقد ضعفه الدار قطني‏.‏

وقال أبو حاتم الرازي صدوق‏.‏

وقال أبو زرعة ربما وهم‏.‏

وقال ابن عدي يكتب حديثه مع ضعفه - فنقل فيه عن الكلبي قال‏:‏ إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بقيت زمرة من آخر زمر الجنة إذا خرج المؤمنون من الصراط بأعمالهم فيقول آخر زمرة من زمر النار لهم وقد بلغت النار منهم كل مبلغ‏:‏ أما نحن فقد أخذنا بما في قلوبنا من الشك والتكذيب، فما نفعكم أنتم توحيدكم‏؟‏ قال فيصرخون عند ذلك يدعون ربهم، فيسمعهم أهل الجنة فيأتون آدم، فذكر الحديث في إتيانهم الأنبياء المذكورين قبل واحدا واحدا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فينطلق فيأتي رب العزة فيسجد له حتى يأمره أن يرفع رأسه ثم يسأله ما تريد‏؟‏ وهو أعلم به، فيقول‏:‏ رب أناس من عبادك أصحاب ذنوب لم يشركوا بك وأنت أعلم بهم، فعيرهم أهل الشرك بعبادتهم إياك، فيقول وعزتي لأخرجنهم فيخرجهم قد احترقوا، فينضح عليهم من الماء حتى ينبتوا ثم يدخلون الجنة فيسمون الجهنميين، فيغبطه عند ذلك الأولون والآخرون، فذلك قوله ‏(‏عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا‏)‏ ‏.‏

قلت‏:‏ فهذا لو ثبت لرفع الإشكال لكن الكلبي ضعيف، ومع ذلك لم يسنده، ثم هو مخالف لصريح الأحاديث الصحيحة أن سؤال المؤمنين الأنبياء واحدا بعد واحد إنما يقع في الموقف قبل دخول المؤمنين الجنة والله أعلم‏.‏

وقد تمسك بعض المبتدعة من المرجئة بالاحتمال المذكور في دعواه أن أحدا من الموحدين لا يدخل النار أصلا، وإنما المراد بما جاء من أن النار تسفعهم أو تلفحهم، وما جاء في الإخراج من النار جميعه محمول على ما يقع لهم من الكرب في الموقف، وهو تمسك باطل، وأقوى ما يرد به عليه ما تقدم في الزكاة من حديث أبي هريرة في قصة مانع الزكاة واللفظ لمسلم ‏"‏ ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها منها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ‏"‏ الحديث بطوله وفيه ذكر الذهب والفضة والبقر والغنم، وهو دال على تعذيب من شاء الله من العصاة بالنار حقيقة زيادة على كرب الموقف‏.‏

وورد في سبب إخراج بقية الموحدين من النار ما تقدم أن الكفار يقولون لهم‏:‏ ما أغنى عنكم قول لا إله إلا الله وأنتم معنا، فيغضب الله لهم فيخرجهم‏.‏

وهو مما يرد به على المبتدعة المذكورين‏.‏

وسأذكره في شرح حديث الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله ‏(‏ثم أعود فأقع ساجدا مثله في الثالثة أو الرابعة‏)‏ في رواية هشام ‏"‏ فأحد لهم حدا فأدخلهم الجنة، ثم أرجع ثانيا فأستأذن ‏"‏ إلى أن قال ‏"‏ ثم أحد لهم حدا ثالثا فأدخلهم الجنة ثم أرجع ‏"‏ هكذا في أكثر الروايات‏.‏

ووقع عند أحمد من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ‏"‏ ثم أعود الرابعة فأقول‏:‏ يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن ‏"‏ ولم يشك بل جزم بأن هذا القول يقع في الرابعة‏.‏

ووقع في رواية معبد بن هلال عن أنس أن الحسن حدث معبدا بعد ذلك بقوله ‏"‏ فأقوم الرابعة ‏"‏ وفيه قول الله له ‏"‏ ليس ذلك لك ‏"‏ وأن الله يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وإن لم يعمل خيرا قط‏.‏

فعلى هذا فقوله ‏"‏ حبسه القرآن ‏"‏ يتناول الكفار وبعض العصاة ممن ورد في القرآن في حقه التخليد، ثم يخرج العصاة في القبضة وتبقى الكفار، ويكون المراد بالتخليد في حق العصاة المذكورين البقاء في النار بعد إخراج من تقدمهم‏.‏

قوله ‏(‏حتى ما يبقى‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ ما بقي ‏"‏ وفي رواية هشام بعد الثالثة ‏"‏ حتى أرجع فأقول‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏إلا من حبسه القرآن، وكان قتادة يقول عند هذا‏:‏ أي وجب عليه الخلود‏)‏ في رواية همام ‏"‏ إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود ‏"‏ كذا أبهم قائل ‏"‏ أي وجب ‏"‏ وتبين من رواية أبي عوانة أنه قتادة أحد رواته‏.‏

ووقع في رواية هشام وسعيد ‏"‏ فأقول‏:‏ ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود ‏"‏ وسقط من رواية سعيد عند مسلم ‏"‏ ووجب عليه الخلود ‏"‏ وعنده من رواية هشام مثل ما ذكرت من رواية همام، فتعين أن قوله ‏"‏ ووجب عليه الخلود ‏"‏ في رواية هشام مدرج في المرفوع لما تبين من رواية أبي عوانة أنها من قول قتادة فسر به قوله ‏"‏ من حبسه القرآن ‏"‏ أي من أخبر القرآن بأنه يخلد في النار‏.‏

ووقع في رواية همام بعد قوله أي وجب عليه الخلود ‏"‏ وهو المقام المحمود الذي وعده الله ‏"‏ وفي رواية شيبان ‏"‏ إلا من حبسه القرآن، يقول‏:‏ وجب عليه الخلود‏.‏

وقال‏:‏ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ‏"‏ وفي رواية سعيد عند أحمد بعد قوله إلا من حبسه القرآن ‏"‏ قال فحدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ فيخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ‏"‏ الحدث وهو الذي فصله هشام من الحديث وسبق سياقه في كتاب الإيمان مفردا، ووقع في رواية معبد بن هلال بعد روايته عن أنس من روايته عن الحسن البصري عن أنس قال ‏"‏ ثم أقوم الرابعة فأقول أي رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول لي ليس ذلك لك ‏"‏ فذكر بقية الحديث في إخراجهم، وقد تمسك به بعض المبتدعة في دعواهم أن من دخل النار من العصاة لا يخرج منها لقوله تعالى ‏(‏ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا‏)‏ وأجاب أهل السنة بأنها نزلت في الكفار، وعلى تسليم أنها في أعم من ذلك فقد ثبت تخصيص الموحدين بالإخراج، ولعل التأييد في حق من يتأخر بعد شفاعة الشافعين حتى يخرجوا بقبضة أرحم الراحمين كما سيأتي بيانه في شرح حديث الباب الذي يليه، فيكون التأييد مؤقتا‏.‏

وقال عياض‏:‏ استدل بهذا الحديث من جوز الخطايا على الأنبياء كقول كل من ذكر فيه ما ذكر، وأجاب عن أصل المسألة بأنه لا خلاف في عصمتهم من الكفر بعد النبوة وكذا قبلها على الصحيح، وكذا القول في الكبيرة على التفصيل المذكور، ويلتحق بها ما يزري بفاعله من الصغائر، وكذا القول في كل ما يقدح في الإبلاغ من جهة القول، واختلفوا في الفعل فمنعه بعضهم حتى في النسيان، وأجاز الجمهور السهو لكن لا يحصل التمادي، واختلفوا فيما عدا ذلك كله من الصغائر فذهب جماعة من أهل النظر إلى عصمتهم منها مطلقا، وأولوا الأحاديث والآيات الواردة في ذلك بضروب من التأويل، ومن جملة ذلك أن الصادر عنهم إما أن يكون بتأويل من بعضهم أو بسهو أو بإذن، لكن خشوا أن لا يكون ذلك موافقا لمقامهم فأشفقوا من المؤاخذة أو المعاتبة، قال‏:‏ وهذا أرجح المقالات، وليس هو مذهب المعتزلة وإن قالوا بعصمتهم مطلقا لأن منزعهم في ذلك التكفير بالذنوب مطلقا ولا يجوز على النبي الكفر، ومنزعنا أن أمة النبي مأمورة بالاقتداء به في أفعاله فلو جاز منه وقوع المعصية للزم الأمر بالشيء الواحد والنهي عنه في حالة واحدة وهو باطل‏.‏

ثم قال عياض‏:‏ وجميع ما ذكر في حديث الباب لا يخرج عما قلناه لأن أكل آدم من الشجرة كان عن سهو، وطلب نوح نجاة ولده كان عن تأويل، ومقالات إبراهيم كانت معاريض وأراد بها الخير، وقتيل موسى كان كافرا كما تقدم بسط ذلك والله أعلم‏.‏

وفيه جواز إطلاق الغضب على الله والمراد به ما يظهر من انتقامه ممن عصاه، وما يشاهده أهل الموقف من الأهوال التي لم يكن مثالها ولا يكون، كذا قرره النووي‏.‏

وقال غيره المراد بالغضب لازمه وهو إرادة إيصال السوء للبعض، وقول آدم ومن بعده ‏"‏ نفسي نفسي نفسي ‏"‏ أي نفسي هي التي تستحق أن يشفع لها، لأن المبتدأ والخبر إذا كانا متحدين فالمراد به بعض اللوازم، ويحتمل أن يكون أحدهما محذوفا‏.‏

وفيه تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق لأن الرسل والأنبياء والملائكة أفضل ممن سواهم، وقد ظهر فضله في هذا المقام عليهم، قال القرطبي‏:‏ ولو لم يكن في ذلك إلا الفرق بين من يقول نفسي نفسي وبين من يقول أمتي أمتي لكان كافيا، وفيه تفضيل الأنبياء المذكورين فيه على من لم يذكر فيه لتأهلهم لذلك المقام العظيم دون من سواهم، وقد قيل إنما اختص المذكورون بذلك لمزايا أخرى لا تتعلق بالتفضيل، فآدم لكونه والد الجميع، ونوح لكونه الأب الثاني، وإبراهيم للأمر باتباع ملته، وموسى لأنه أكثر الأنبياء تبعا وعيسى لأنه أولى الناس بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديث الصحيح‏.‏

ويحتمل أن يكونوا اختصوا بذلك لأنهم أصحاب شرائع عمل بها من بين من ذكر أولا ومن بعده‏.‏

وفي الحديث من الفوائد غير ما ذكر أن من طلب من كبير أمرا مهما أن يقدم بين يدي سؤاله وصف المسئول بأحسن صفاته وأشرف مزاياه ليكون ذلك أدعى لإجابته لسؤاله، وفيه أن المسئول إذا لم يقدر على تحصيل ما سئل يعتذر بما يقبل منه ويدل على من يظن أنه يكمل في القيام بذلك فالدال على الخير كفاعله، وأنه يثنى على المدلول عليه بأوصافه المقتضية لأهليته ويكون أدعى لقبول عذره في الامتناع، وفيه استعمال ظرف المكان في الزمان لقوله لست هناكم لأن هنا ظرف مكان فاستعملت في ظرف الزمان لأن المعنى لست في ذلك المقام، كذا قاله بعض الأئمة وفيه نظر، وإنما هو ظرف مكان على بابه لكنه المعنوي لا الحسي، مع أنه يمكن حمله على الحسي لما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم يباشر السؤال بعد أن يستأذن في دخول الجنة، وعلى قول من يفسر المقام المحمود بالقعود على العرش يتحقق ذلك أيضا‏.‏

وفيه العمل بالعام قبل البحث عن المخصص أخذا من قصة نوح في طلبه نجاة ابنه، وقد يتمسك به من يرى بعكسه‏.‏

وفيه أن الناس يوم القيامة يستصحبون حالهم في الدنيا من التوسل إلى الله تعالى في حوائجهم بأنبيائهم، والباعث على ذلك الإلهام كما تقدم في صدر الحديث‏.‏

وفيه أنهم يستشير بعضهم بعضا ويجمعون على الشيء المطلوب وأنهم يغطى عنهم بعض ما علموه في الدنيا لأن في السائلين من سمع هذا الحديث ومع ذلك فلا يستحضر أحد منهم أن ذلك المقام يختص به نبينا صلى الله عليه وسلم، إذ لو استحضروا ذلك لسألوه من أول وهلة ولما احتاجوا إلى التردد من نبي إلى نبي، ولعل الله تعالى أنساهم ذلك للحكمة التي تترب عليه من إظهار فضل نبينا صلى الله عليه وسلم كما تقدم تقريره‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ الْحَسَنِ بْنِ ذَكْوَانَ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏يحيى‏)‏ هو ابن سعيد القطان والحسن بن ذكوان هو أبو سلمة البصري تكلم فيه أحمد وابن معين وغيرهما لكنه ليس له في البخاري سوى هذا الحديث من رواية يحيى القطان عنه مع تعنته في الرجال، ومع ذلك فهو متابعة، وفي طبقته الحسين بن ذكوان وهو بضم الحاء وفتح السين وآخره نون بصري أيضا يعرف بالمعلم وبالمكتب وهو أوثق من أبي سلمة، وتقدم شرحه ضمن أحاديث الباب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ حَارِثَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ هَلَكَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ غَرْبُ سَهْمٍ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْتَ مَوْقِعَ حَارِثَةَ مِنْ قَلْبِي فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ لَمْ أَبْكِ عَلَيْهِ وَإِلَّا سَوْفَ تَرَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ لَهَا هَبِلْتِ أَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ وَإِنَّهُ فِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى

الشرح‏:‏

حديث أنس في قصة أم حارثة، تقدم في الباب من وجه آخر عن حميد عنه‏.‏

الحديث‏:‏

وَقَالَ غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِعُ قَدَمٍ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا يَعْنِي الْخِمَارَ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا

الشرح‏:‏

فيه ‏"‏ ولقاب قوس أحدكم ‏"‏ تقدم شرحه وفيه ‏"‏ ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة أطلعت إلى الأرض‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏لأضاءت ما بينهما‏)‏ وقع في حديث سعيد بن عامر الجمحي عند البراز بلفظ ‏"‏ تشرف على الأرض لذهب ضوء الشمس والقمر‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ولملأت ما بينهما ريحا‏)‏ أي طيبة، وفي حديث سعيد بن عامر المذكور ‏"‏ لملأت الأرض ريح مسك ‏"‏ وفي حديث أبي سعيد عند أحمد وصححه ابن حبان ‏"‏ وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ولنصيفها‏)‏ بفتح النون وكسر الصاد المهملة بعدها تحتانية ثم فاء، فسر في الحديث بالخمار بكسر المعجمة وتخفيف الميم، وهذا التفسير من قتيبة فقد أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن إسماعيل بن جعفر بدونه‏.‏

وقال الأزهري‏:‏ النصيف الخمار، ويقال أيضا للخادم‏.‏

قلت‏:‏ والمراد هنا الأول جزما‏.‏

وقد وقع في رواية الطبراني ‏"‏ ولتاجها على رأسها ‏"‏ وحكى أبو عبيد الهروي أن النصيف المعجر بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم وهو ما تلويه المرأة على رأسها‏.‏

وقال الأزهري‏:‏ هو كالعصابة تلفها المرأة على استدارة رأسها، واعتجر الرجل بعمامته لفها على رأسه ورد طرفها على وجهه وشيئا منها تحت ذقنه، وقيل المعجر ثوب تلبسه المرأة أصغر من الرداء، ووقع في حديث ابن عباس عند ابن أبي الدنيا ‏"‏ ولو أخرجت نصيفها لكانت الشمس عند حسنها مثل الفتيلة من الشمس لا ضوء لها، ولو أطلعت وجهها لأضاء حسنها ما بين السماء والأرض، ولو أخرجت كفها لافتتن الخلائق بحسنها‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ لَوْ أَسَاءَ لِيَزْدَادَ شُكْرًا وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ لَوْ أَحْسَنَ لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة من طريق الأعرج عنه‏.‏

قوله ‏(‏لا يدخل أحد الجنة إلا أري مقعده من النار‏)‏ وقع عند ابن ماجه بسند صحيح من طريق آخر عن أبي هريرة أن ذلك يقع عند المسألة في القبر وفيه ‏"‏ فيفرج له فرجه قبل النار فينظر إليها فيقال له‏:‏ انظر إلى ما وقاك الله ‏"‏ وفي حديث أنس الماضي في أواخر الجنائز ‏"‏ فيقال انظر إلى مقعدك من النار ‏"‏ زاد أبو داود في روايته ‏"‏ هذا بيتك كان في النار، ولكن الله عصمك ورحمك ‏"‏ وفي حديث أبي سعيد ‏"‏ كان هذا منزلك لو كفرت بربك‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏لو أساء ليزداد شكرا‏)‏ أي لو كان عمل عملا سيئا وهو الكفر فصار من أهل النار، وقوله ‏"‏ليزداد شكرا ‏"‏ أي فرحا ورضا، فعبر عنه بلازمه، لأن الراضي بالشيء يشكر من فعل له ذلك‏.‏

قوله ‏(‏ولا يدخل النار أحد‏)‏ قدم في رواية الكشميهني الفاعل على المفعول، وقوله ‏"‏إلا أري ‏"‏ بضم الهمزة وكسر الراء‏.‏

قوله ‏(‏لو أحسن‏)‏ أي لو عمل عملا حسنا وهو الإسلام‏.‏

قوله ‏(‏ليكون عليه حسرة‏)‏ أي للزيادة في تعذيبه، ووقع عند ابن ماجه أيضا وأحمد بسند صحيح عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ ما منكم من أحد إلا وله منزلان‏:‏ منزل في الجنة، ومنزل في النار‏.‏

فإذا مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله ‏"‏ وذلك قوله تعالى ‏(‏أولئك هم الوارثون‏)‏ وقال جمهور المفسرين في قوله تعالى ‏(‏وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض‏)‏ الآية‏:‏ المراد أرض الجنة التي كانت لأهل النار لو دخلوا الجنة، وهو موافق لهذا الحديث، وقيل المراد أرض الدنيا لأنها صارت خبزة فأكلوها كما تقدم‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ يحتمل أن يسمى الحصول في الجنة وراثة من حيث اختصاصهم بذلك دون غيرهم، فهو إرث بطريق الاستعارة والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن عمرو‏)‏ هو ابن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب، وقد وقع لنا هذا الحديث في نسخة إسماعيل بن جعفر حدثنا عمرو بن أبي عمرو، وأخرجه أبو نعيم من طريق علي ابن حجر عن إسماعيل، وكذا تقدم في العلم من رواية سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو، وقد تقدم أن اسم أبي عمرو والد عمرو ميسرة‏.‏

قوله ‏(‏من أسعد الناس بشفاعتك‏)‏ لعل أبا هريرة سأل عن ذلك عند تحديثه صلى الله عليه وسلم بقوله ‏"‏ وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة ‏"‏ وقد تقدم سياقه وبيان ألفاظه في أول كتاب الدعوات، ومن طرقه ‏"‏ شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ‏"‏ وتقدم شرح حديث الباب في ‏"‏ باب الحرص على الحديث ‏"‏ من كتاب العلم‏.‏

وقوله ‏"‏من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه ‏"‏ بكسر القاف وفتح الموحدة أي قال ذلك باختياره، ووقع في رواية أحمد وصححه ابن حبان من طريق أخرى عن أبي هريرة نحو هذا الحديث وفيه ‏"‏ لقد ظننت أنك أول من يسألني عن ذلك من أمتي، وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه ‏"‏ والمراد بهذه الشفاعة المسئول عنها هنا بعض أنواع الشفاعة وهي التي يقول صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أمتي أمتي، فيقال له‏:‏ أخرج من النار من في قلبه وزن كذا من الإيمان ‏"‏ فأسعد الناس بهذه الشفاعة من يكون إيمانه أكمل ممن دونه، وأما الشفاعة العظمي في الإراحة من كرب الموقف فأسعد الناس بها من يسبق إلى الجنة، وهم الذين يدخلونها بغير حساب، ثم الذين يلونهم وهو من يدخلها بغير عذاب بعد أن يحاسب ويستحق العذاب، ثم من يصيبه لفح من النار ولا يسقط‏.‏

والحاصل أن في قوله ‏"‏ أسعد ‏"‏ إشارة إلى اختلاف مراتبهم في السبق إلى الدخول باختلاف مراتبهم في الإخلاص، ولذلك أكده بقوله ‏"‏ من قلبه ‏"‏ مع أن الإخلاص محله القلب، لكن إسناد الفعل إلى الجارحة أبلغ في التأكيد، وبهذا التقرير يظهر موقع قوله ‏"‏ أسعد ‏"‏ وأنها على بابها من التفضيل، ولا حاجة إلى قول بعض الشراح الأسعد عنا بمعنى السعيد لكون الكل يشتركون في شرطية الإخلاص، لأنا نقول يشتركون فيه لكن مراتبهم فيه متفاوتة‏.‏

وقال البيضاوي‏:‏ يحتمل أن يكون المراد من ليس له عمل يستحق به الرحمة والخلاص، لأن احتياجه إلى الشفاعة أكثر وانتفاعه بها أوفى والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ كَبْوًا فَيَقُولُ اللَّهُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى فَيَقُولُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى فَيَقُولُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا أَوْ إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ تَسْخَرُ مِنِّي أَوْ تَضْحَكُ مِنِّي وَأَنْتَ الْمَلِكُ فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ وَكَانَ يَقُولُ ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏جرير‏)‏ هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، وعبيدة بفتح أوله هو ابن عمرو، وهذا السند كله كوفيون‏.‏

قوله ‏(‏إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا فيها‏)‏ قال عياض‏:‏ جاء نحو هذا في آخر من يجوز على الصراط يعني كما يأتي في آخر الباب الذي يليه قال‏:‏ فيحتمل أنهما اثنان إما شخصان وإما نوعان أو جنسان، وعبر فيه بالواحد عن الجماعة لاشتراكهم في الحكم الذي كان سبب ذلك، ويحتمل أن يكون الخروج هنا بمعنى الورود وهو الجواز على الصراط فيتحد المعنى إما في شخص واحد أو أكثر‏.‏

قلت‏:‏ وقع عند مسلم من رواية أنس عن ابن مسعود ما يقوي الاحتمال الثاني ولفظه ‏"‏ آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال‏:‏ تبارك الذي نجاني منك ‏"‏ وعند الحاكم من طريق مسروق عن ابن مسعود ما يقتضي الجمع‏.‏

قوله ‏(‏حبوا‏)‏ بمهملة وموحدة أي زحفا وزنه ومعناه‏.‏

ووقع بلفظ ‏"‏ زحفا ‏"‏ في رواية الأعمش عن إبراهيم عند مسلم‏.‏

قوله ‏(‏فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا‏)‏ وفي رواية الأعمش ‏"‏ فيقال له أتذكر الزمان الذي كنت فيه - أي الدنيا - فيقول‏:‏ نعم، فيقال له‏:‏ تمن، فيتمنى‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أتسخر مني أو تضحك مني‏)‏ وفي رواية الأعمش ‏"‏ أتسخر بي ‏"‏ ولم يشك، وكذا لمسلم من رواية منصور، وله من رواية أنس عن ابن مسعود ‏"‏ أتستهزئ بي وأنت رب العالمين ‏"‏ وقال المازري‏:‏ هذا مشكل، وتفسير الضحك بالرضا لا يتأتى هنا، ولكن لما كانت عادة المستهزئ أن يضحك من الذي استهزأ به ذكر معه، وأما نسبة السخرية إلى الله تعالى فهي على سبيل المقابلة وإن لم يذكره في الجانب الآخر لفظا لكنه لما ذكر أنه عاهد مرارا وغدر حل فعله محل المستهزئ وظن أن في قول الله له ‏"‏ ادخل الجنة ‏"‏ وتردده إليها وظنه أنها ملأي نوعا من السخرية به جزاء على فعله فسمي الجزاء على السخرية سخرية، ونقل عياض عن بعضهم أن ألف أتسخر مني ألف النفي كهي في قوله تعالى ‏(‏أتهلكنا بما فعل السفهاء منا‏)‏ على أحد الأقوال، قال‏:‏ وهو كلام متدلل علم مكانه من ربه وبسطه له بالإعطاء‏.‏

وجوز عياض أن الرجل قال ذلك وهو غير ضابط لما قال إذ وله عقله من السرور بما لم يخطر بباله، ويؤيده أنه قال في بعض طرقه عند مسلم لما خلص من النار ‏"‏ لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين ‏"‏ وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ أكثروا في تأويله، وأشبه ما قيل فيه أنه استخفه الفرح وأدهشه فقال ذلك، وقيل قال ذلك لكونه خاف أن يجازى على ما كان منه في الدنيا من التساهل في الطاعات وارتكاب المعاصي كفعل الساخرين، فكأنه قال‏:‏ أتجازيني على ما كان مني‏؟‏ فهو كقوله سخر الله منهم وقوله الله يستهزئ بهم أي ينزل بهم جزاء سخريتهم واستهزائهم وسيأتي بيان الاختلاف في اسم هذا الرجل في آخر شرح حديث الباب الذي يليه‏.‏

قوله ‏(‏ضحك حتى بدت نواجذه‏)‏ بنون وجيم وذال معجمة جمع ناجذ، تقدم ضبطه في كتاب الصيام‏.‏

وفي رواية ابن مسعود ‏"‏ فضحك ابن مسعود فقالوا‏:‏ مم تضحك‏؟‏ فقال‏:‏ هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك رب العالمين حين قال الرجل‏:‏ أتستهزئ مني‏؟‏ قال‏:‏ لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قادر ‏"‏ قال البيضاوي‏:‏ نسبة الضحك إلى الله تعالى مجاز بمعنى الرضا، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم على حقيقته، وضحك ابن مسعود على سبيل التأسي‏.‏

قوله ‏(‏وكان يقال‏:‏ ذلك أدنى أهل الجنة منزلة‏)‏ قال الكرماني‏:‏ ليس هذا من تتمة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو من كلام الراوي نقلا عن الصحابة أو عن غيرهم من أهل العلم‏.‏

قلت‏:‏ قائل ‏"‏ وكان يقال ‏"‏ هو الراوي كما أشار إليه، وأما قائل المقالة المذكورة فهو النبي صلى الله عليه وسلم، ثبت ذلك في أول حديث أبي سعيد عند مسلم ولفظه ‏"‏ أدنى أهل الجنة منزلة رجل صرف الله وجهه عن النار ‏"‏ وساق القصة‏.‏

وفي رواية له من حديث المغيرة أن موسى عليه السلام سأل ربه عن ذلك، ولمسلم أيضا من طريق همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أدنى مقعد أحدكم من الجنة أن يقال له تمن فيتمنى ويتمنى فيقال إن لك ما تمنيت ومثله معه‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عبد الملك‏)‏ هو ابن عمير، ونوفل جد عبد الله بن الحارث هو ابن الحارث بن عبد المطلب، والعباس هو ابن عبد المطلب وهو عم جد عبد الله بن الحارث الراوي عنه وللحارث بن نوفل ولأبيه صحبة، ويقال إن لعبد الله رؤية، وهو الذي كان يلقب ببة بموحدتين مفتوحتين الثانية ثقيلة ثم هاء تأنيث‏.‏

قوله ‏(‏هل نفعت أبا طالب بشيء‏)‏ ‏؟‏ هكذا ثبت في جميع النسخ بحذف الجواب، وهو اختصار من المصنف، وقد رواه مسدد في مسنده بتمامه، وقد تقدم في كتاب الأدب عن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة بالسند المذكور هنا بلفظ ‏"‏ فإنه كان يحوطك ويغضب لك، قال‏:‏ نعم هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ‏"‏ ووقع في رواية المقدمي عن أبي عوانة عند الإسماعيلي ‏"‏ الدركة ‏"‏ بزيادة هاء، وقد تقدم شرح ما يتعلق بذلك في شرح الحديث الرابع عشر، ومضى أيضا في قصة أبي طالب في المبعث النبوي لمسدد فيه سند آخر إلى عبد الملك بن عمير المذكور والله أعلم‏.‏